الديوك الرومية لا تطير
صفحة 1 من اصل 1
الديوك الرومية لا تطير
هالات ضوئية كسلاسل حلزونية حلقت أمام السيارة سالكة نفس الطريق الذي اجتازته، تزداد إضاءة ، كلما تقدمت السيارة على تلك الأرض ، ما لبثت أن اختفت مخلّفة وراءها بريقا قديما سقط في عقلي محدثا رنينا في الذاكرة ... الدار الفلاحي القديم ، لبناته الطينية التي نشأت من مزيج بمقادير من طين وتبن 00 أقراص من السماد البلدي تعلوها على هيئة دوائر متراصة في انتظار أن تصبح وقود ا ، الترعة المرتمية أمام الدار وعلى امتداد القرية ، أشياء لم أرها منذ ما يقرب من تسعة عشر عاما ، بدت ذات لون أخضر ذابل من وراء نظارتي الخضراء باهظة الثمن التي تخفي وجهي ... عندما نزلت من السيارة متجها نحوها كانت خطواتي متطابقة مع بعضها كأنها صبّت في قوالب أسمنتية جفت منذ زمن بعيد ... الحيز الضيق داخل البدلة المحبوكة بإحكام على جسدي لم يسمح بغير ذلك ... واجهة الدار بدت أصغر حجما من ذي قبل ، وحبل دوبارة تدلت عقدته من ثقب في الباب جذبته فانفتح .. كغابة خلت من حيواناتها الأسطورية شديدة العتمة ترجع لعصر ما قبل التاريخ كان جوف الدار .. فرقعة الباب الشديدة أنبأت بصدأ مفصلاته .. عندما كان الباب يفتح ويقفل كل آونة مستقبلا ضيوفا وجيرانا وأطفالا لم يكن يتفوه بمثل ذلك الأنين .. الضوء المغربي الخجل المنكفئ من الخارج عكس أطلالا متناثرة في باحة الدار الرطبة .. ويدي الممتدة لتفتح شباكا خشبيا صغيرا كما لو كانت تمتد لهوة في زمن فائت .. خيوط فضية انسكبت من بين قضبانه الحديدية .. لم أفلح أبدا في الوصول إليه عندما كنت صغيرا .. نفس الوجود الدنيوي لأشياء رحل أصحابها إلى العالم الآخر تاركين وراءهم مخلفاتهم الرخيصة ، الأرضية الترابية ، الجدران الجيرية الزرقاء المتآكلة ، العروق الخشبية تحمل بعناء سقف الدار ، محتويات لم تتحلل أو تتعفن كتعفن الموتى ، كما لو كانت خالدة لإنسان غير خالد .. طبالي خشبية ، ماكينة حياكة منزوية في صمت بإحدى الزوايا ، كنب بلدي يتكئ في شجن على الجدران وزير الماء المثقوب .. عندما رفعت غطاءه ظننت أنني سأجد بداخله ماءً .. منذ عمر مضى كنت أعتقد أنه يولّد الماء كالصنبور ، جرأتي لم تصل إلى أن تمتد يدي داخله لأشرب .. علي بن خالتي أم نجوانة جارة جدتي ـ ذلك الولد القذر الذي لم يكن يخجل أن يلعب الكرة والغميضة وكهرب بملابسه الداخلية المنقّرة بثقوب عينية كفتحات استطلاعية بجدار حصن منيع ـ ما زلت أتذكر كلامه ( إن في جوف الزير كهفا مظلما تسكنه أفاعي وسحالي وصراصير متوحشة بذيئة ) عندما كانت جدتي تناولني الماء لأشرب كنت أحدق في الماء .. أحاول التأكد من خلوه من تلك الكائنات التي يتحدث عنها ، بعد أن طالت ساقي قليلا استطعت أن أضع كرسي الحمام الخشبي الصغير وأقف عليه لأصل لحافة الزير الموضوع على الحامل الحديدي وأكتشف كذبه وأفهم لعبته؛ الضحك على طفل قاهري مدلل جاء لقضاء أجازته الصيفية في قرية جدته الريفية .. عندما واجهته بكذبته اندفع في الضحك والقهقهة حتى سقط على الأرض .. ضحكاته المدوّية ما زالت عالقة بإذني
*******************
لها بقية
تاليف
محمد ابراهيم قشقوش
*******************
لها بقية
تاليف
محمد ابراهيم قشقوش
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى