الرؤية من أعلى
صفحة 1 من اصل 1
الرؤية من أعلى
الرؤية من أعلى
كنت جالسا بالشرفة أحدق في السماء .. لفحات من هواء هبت مع نسمات من ذكريات الزمن البعيد .. تذكرتها جيدا .. أغلبها يدور في الإسكندرية ـ مدينتي المفضلة ـ نهار الإسكندرية بحر وشمس ورمل أصفر ... في ساعة نهارية مبكرة من كل يوم يبتلع البحر رواده وخلطة سحرية مكونة من هواء وبحر وشمس وملح تحيلهم إلى أشخاص آخرين ... وقت الغروب يلفظهم البحر بوجوه جديدة حمراء وسمراء .. متعتي كانت الاستلقاء تحت الشمسية على الشاطئ والنظر إلى أعلى بينما رأسي تتكئ في استكانة على كفي ... في لحظات كثيرة من لحظات استلقائي تقع عيني على صف العمارات الشاهقة البيضاء المطلة على البحر ... بعضها كان يزيد عن العشرين طابقا والبعض الآخر لا تتعدى الخمسة طوابق .. أبي الذي كان يجلس بجانبي ينظر في اتجاه البحر .. قلت له مرة ( من يملك شقة في الطابق العشرين تكشف له شواطئ الإسكندرية لن يكون في حاجة للنزول إلى أسفل ، سيكتفي بالجلوس في الشرفة والرؤية من أعلى ) .. عندما قلت له ذلك أجابني ساخرا ( احلم على قدر ما تملك ) .. كان كأنه استطاع أن يقرأ ما يدور في عقلي 0
ـ في السماء .. التمشية على الكورنيش ممتعة ... أجتاز مع أبي وأمي وأخوتي وجدي ذو العكاز المسافة بين اسبورتنج إلى ميامي مشيا على الأقدام ... هواء الكورنيش الجميل لا ينقطع ، يجعلنا نشعر بالبرد في صيف يوليه .. نرتعد ونرتعش ونضم ياقات ملابسنا
ـ عند الجلوس للراحة قليلا على سور الكورنيش ومشاهدة المارة والسيارات وتأمل العمارات العالية يكون لأكل الذرة المشوية والتين الشوكي وقزقزة الترمس وشرب المثلجات لذة بالغة ... والضحكات والبسمات ونذكر الأشياء والأشخاص شيء ممتع هو الآخر 0
ـ نهاية الليل فرصة لاقتناص عشاء مجاني عبارة عن كيزر الجبن الرومي أو البسطرمة مع حلويات وجاتوهات معلبة بداخل علب كرتونية فاخرة .. الحصول على ذلك سهل في الكافيتريات الليلية المطلة على البحر ـ ذلك عندما تكون عامرة بإحدى الأفراح ـ المطلوب فقط الجلوس على إحدى الكراسي مع المعازيم ومشاهدة الراقصات والمغنيات وانتظار موزع العشاء .. في البعض المرات نحصل على العلب وننصرف لندخل ملهى ليلي آخر ... أسماء بعضها ما زال عالقا في ذاكرتي ... نفرتيتي وكليوباترا والشاطبي 0
ـ ضحكت عندما تذكرت جدي وهو يستند على عكازه مرتديا الجلباب الأبيض كأبي ... كان ذلك عندما نظر لإحدى الفنادق العملاقة فئة الخمسة نجوم .. وقتها شهق من جمال الفندق وارتفاعه .. قال ( لابد أنها باهظة الثمن ... إن ثمن الغرفة الواحدة لا يمكن أن يقل عن الخمسة جنيهات )
ـ في أيام أخرى نذهب للتسوق وشراء الملابس والأحذية الجديدة ذات الأسعار المحدودة .. ذلك عندما نكون في محطة الرمل أو المنشية أو خالد بن الوليد بميامي .. الشوارع دائما تضج بالحركة ... لا أحد يستريح في الإسكندرية ... في الوقت الذي يذهب فيه أشخاص يحل محلهم آخرون ... تبدو الصورة عن بعد كأنهم نفس الأشخاص الذين في البحر ونفسهم على الكورنيش ونفسهم عند الذهاب للتسوق ، وفي النهاية تبدو الإسكندرية دائما صاخبة تضج بمرتاديها 0
ـ كنت ما زلت جالسا بالشرفة عندما وقفت ونظرت لأسفل ... الأشياء صغيرة غير واضحة .. لم تكن ستبدو غير ذلك من الطابق العشرين ... عندما تأملت الإسكندرية كانت مختلفة عمّا عهدتها ... شيء تغير أو شيء أفتقده ... أمواج البحر تضرب في شواطئها صامتة كأنه فيلم غير ناطق ... الأشخاص نقاط صغيرة بلا ملامح والشوارع خطوط بلا روح والهواء الذي يصل إليّ لا يحمل صهد الذرة المشوية على الخشب المحروق أو رائحة البطاطا أو الفول السوداني المحمص بذلك الفرن الصغير على العربة ... الأشياء بدت بعيدة مملة ... الشيء القريب مني كراسي البامبو والسجاد الفاخر والحرير الناعم ، سؤال واحد شغل فكري لفترة من الوقت ... ( أيهما أفضل الرؤية من أعلى أم الرؤية من أسفل ؟؟ )
تأليف / محمد إبراهيم قشقوش
25/ 4/ 1999
كنت جالسا بالشرفة أحدق في السماء .. لفحات من هواء هبت مع نسمات من ذكريات الزمن البعيد .. تذكرتها جيدا .. أغلبها يدور في الإسكندرية ـ مدينتي المفضلة ـ نهار الإسكندرية بحر وشمس ورمل أصفر ... في ساعة نهارية مبكرة من كل يوم يبتلع البحر رواده وخلطة سحرية مكونة من هواء وبحر وشمس وملح تحيلهم إلى أشخاص آخرين ... وقت الغروب يلفظهم البحر بوجوه جديدة حمراء وسمراء .. متعتي كانت الاستلقاء تحت الشمسية على الشاطئ والنظر إلى أعلى بينما رأسي تتكئ في استكانة على كفي ... في لحظات كثيرة من لحظات استلقائي تقع عيني على صف العمارات الشاهقة البيضاء المطلة على البحر ... بعضها كان يزيد عن العشرين طابقا والبعض الآخر لا تتعدى الخمسة طوابق .. أبي الذي كان يجلس بجانبي ينظر في اتجاه البحر .. قلت له مرة ( من يملك شقة في الطابق العشرين تكشف له شواطئ الإسكندرية لن يكون في حاجة للنزول إلى أسفل ، سيكتفي بالجلوس في الشرفة والرؤية من أعلى ) .. عندما قلت له ذلك أجابني ساخرا ( احلم على قدر ما تملك ) .. كان كأنه استطاع أن يقرأ ما يدور في عقلي 0
ـ في السماء .. التمشية على الكورنيش ممتعة ... أجتاز مع أبي وأمي وأخوتي وجدي ذو العكاز المسافة بين اسبورتنج إلى ميامي مشيا على الأقدام ... هواء الكورنيش الجميل لا ينقطع ، يجعلنا نشعر بالبرد في صيف يوليه .. نرتعد ونرتعش ونضم ياقات ملابسنا
ـ عند الجلوس للراحة قليلا على سور الكورنيش ومشاهدة المارة والسيارات وتأمل العمارات العالية يكون لأكل الذرة المشوية والتين الشوكي وقزقزة الترمس وشرب المثلجات لذة بالغة ... والضحكات والبسمات ونذكر الأشياء والأشخاص شيء ممتع هو الآخر 0
ـ نهاية الليل فرصة لاقتناص عشاء مجاني عبارة عن كيزر الجبن الرومي أو البسطرمة مع حلويات وجاتوهات معلبة بداخل علب كرتونية فاخرة .. الحصول على ذلك سهل في الكافيتريات الليلية المطلة على البحر ـ ذلك عندما تكون عامرة بإحدى الأفراح ـ المطلوب فقط الجلوس على إحدى الكراسي مع المعازيم ومشاهدة الراقصات والمغنيات وانتظار موزع العشاء .. في البعض المرات نحصل على العلب وننصرف لندخل ملهى ليلي آخر ... أسماء بعضها ما زال عالقا في ذاكرتي ... نفرتيتي وكليوباترا والشاطبي 0
ـ ضحكت عندما تذكرت جدي وهو يستند على عكازه مرتديا الجلباب الأبيض كأبي ... كان ذلك عندما نظر لإحدى الفنادق العملاقة فئة الخمسة نجوم .. وقتها شهق من جمال الفندق وارتفاعه .. قال ( لابد أنها باهظة الثمن ... إن ثمن الغرفة الواحدة لا يمكن أن يقل عن الخمسة جنيهات )
ـ في أيام أخرى نذهب للتسوق وشراء الملابس والأحذية الجديدة ذات الأسعار المحدودة .. ذلك عندما نكون في محطة الرمل أو المنشية أو خالد بن الوليد بميامي .. الشوارع دائما تضج بالحركة ... لا أحد يستريح في الإسكندرية ... في الوقت الذي يذهب فيه أشخاص يحل محلهم آخرون ... تبدو الصورة عن بعد كأنهم نفس الأشخاص الذين في البحر ونفسهم على الكورنيش ونفسهم عند الذهاب للتسوق ، وفي النهاية تبدو الإسكندرية دائما صاخبة تضج بمرتاديها 0
ـ كنت ما زلت جالسا بالشرفة عندما وقفت ونظرت لأسفل ... الأشياء صغيرة غير واضحة .. لم تكن ستبدو غير ذلك من الطابق العشرين ... عندما تأملت الإسكندرية كانت مختلفة عمّا عهدتها ... شيء تغير أو شيء أفتقده ... أمواج البحر تضرب في شواطئها صامتة كأنه فيلم غير ناطق ... الأشخاص نقاط صغيرة بلا ملامح والشوارع خطوط بلا روح والهواء الذي يصل إليّ لا يحمل صهد الذرة المشوية على الخشب المحروق أو رائحة البطاطا أو الفول السوداني المحمص بذلك الفرن الصغير على العربة ... الأشياء بدت بعيدة مملة ... الشيء القريب مني كراسي البامبو والسجاد الفاخر والحرير الناعم ، سؤال واحد شغل فكري لفترة من الوقت ... ( أيهما أفضل الرؤية من أعلى أم الرؤية من أسفل ؟؟ )
تأليف / محمد إبراهيم قشقوش
25/ 4/ 1999
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى